Sunday, September 18, 2005

نصف حياة

وكل الموت

صرخة

العنقاء

الأخيرة

لم تكن نهاية العرض المسرحي الذي شهدته قاعة صغيرة
ملحقة بقصر ثقافة بني سويف، أُريد لها أن تكون قاعة مسرح، لم تكن هذه النهاية هى تلك التي ارتآها مخرج العرض، و تلقنها المؤدون، وبالطبع لم تكن هى النهاية التي قدرها الجمهور. ليس من شكٍ والمسرح فن الإدهاش أن يكون المخرج قد خطط لبعض الدهشة يفاجئ بها جمهوره، لكن الدهشة التي خُطط لها تحولت إلى فاجعة ابتلعت فى مشهد مأساوى بامتياز المؤدين والمتلقين، هواة المسرح من الشباب, والأساتذة والنقاد فى آن، القاهريين ومحبي المسرح من الأقاليم, وذلك فى مشهد عبثي يثير الغضب والغيظ بقدر مايكسر القلب على فراق أحباء وأصدقاء كانوا منذ لحظة بيننا نأتنس بوجودهم فى سياق مظلم يزداد اظلاماً ووحشة يوماً بعد يوم، رغم كل المزاعم، ورغم كل مظاهر التغيير الزائفة و المفضوحة

أزعم أن هذا المشهد المأساوي الفاجع الذي شهده مساء الإثنين الخامس من سبتمبر لم يكن غير مسبوقٍ، وإن كان مختلفاً في تفاصيله عن مآسي سابقة شهدناها وابتلعنا مراراتها صاغرين، ممنين أنفسنا بأن الغد قد يأتي بمشاهد أخرى أفضل، مشاهد تدهشنا وتضيف إلينا وتثرينا، فإذا بالغد لا يأتينا إلا بالألم والفقد والإفقار، بكل ما فى الإفقار من معنى، على المستويات المادية والروحية والفكرية.. صار الفقد عنواناً لنا، والفقر طعامنا ومشربنا.

لم يكن هذا المشهد مقطوع الصلة بالسياق الذي عشناه ونعيشه، بل كان تنويعةً على نغمة مكرورة في أغنية كئيبة، لانهاية لها وكأنها الأبد. إنه تنويعة جديدة على تيمة نعرفها، تيمة نعيشها كل يوم إلى حد الإملال، تيمة تعودتها ألسنتنا ومسامعنا، نطعمها في الصباح وننام عليها في المساء. لم يكن ذلك المشهد سوى فصل من عرض نحن فيه المتفرجون والممثلون في آن. لكننا من كثرة ماعايشنا هذا المشهد استمرأناه، واستسغناه، وأصبحنا نتلذذ فيه بدور الضحية الذي أُسند لنا، تفجعنا المصيبة تلو الأخري، نغضب قليلاً، ثم نبكى ونستكين أخيراً إلى دورنا الأثير الذي رُسم لنا وقبلنا نحن أن نعيشه عن طيب خاطر..

المدان في هذا المشهد ليس شخص، ولا حتي مؤسسة (وإن كان لا بد أن يحاسبوا على هذا الجرم)..المجرم هو نحن جميعاً.. لقد أجرمنا جميعاً حين هادنا التخلف والعشوائية..أجرمنا حين قبلنا بنصف قاعة مسرح، ونصف مدرسة، ونصف سينما، ونصف كتاب..أجرمنا حين قبلنا بنصف مسئول، ونصف سياسى، وتركنا الأنصاف يتخمون فوق كراسيهم رغماً عن كل العفن الذى يفوح من الكراسى ومنهم..أجرمنا حين قبلنا بنصف حياة سياسية، نصف انتخابات، ونصف حياة فكرية، ونصف تعليم..

لقد مُنحنا جميعاً نصف حياة..و لم يبقَ لنا سوى كل الموت

لقد سلبت منا كل استحقاقات الحياة الكريمة من حرية وكرامة وقدرة على الفعل والإبداع، ومنحنا المذلة في صورة شبه كرامة، والعبودية متدثرة في شبه حرية، والعجز متخفياً في نصف فعل، أو شبه ابداع..

أما الموت فمُنحناه بسخاءٍ، ينتظرنا على قارعة الطريق، ويتربص بنا في الطرقات..يشتهينا ويطاردنا فيما نشرب وفيما نأكل..حتى لحظات الخلق الشحيحة التي حسبناها تقاوم العدم لم تكن حبلى إلا بالموت..

آه أيتها العنقاء تركناك وحيدة للنار ولم نكن نعلم أننا احترقنا ونحترق معكِ حتماً تصعد منك روائح الأبدية وتستولدى النار ميلاداً جديداً يحيل عدمنا حياةً ويرد لنا ماخصم من انسانيتنا..

سامح فكري
عن أخبار الأدب عدد 19-09-2005

No comments: