Friday, January 06, 2017

البارون ساكن الأشجار
من الفصل 20 


ولكنني سرعان ما اضطرت أن أقطع رحلتي، وأن أعود إلى أومبروزا بعد استدعائي لأمر عاجل مؤسف. لقد تطورت أزمة التنفس التي تصيب أمنا فجأة، وأصبحت أكثر خطورة، ولم تعد المسكينة تقوى على مغادرة الفراش.
عندما عبرت المدخل، ورفعت عينيّ  تجاه فيلتنا، كنت موقنًا أنني سآراه هناك، كان كوزيمو معلقًا على فرع مرتفع من فروع شجرة توت، قريبة جدًا من حافة نافذة حجرة أمنا. ناديته بصوت خافت : كوزيمو! أشار إلى بإشارة كانت تعنى -في آن- أن أمنا قد تحسنت قليلاً، ولكن ما زالت حالتها خطيرة، وأن أصعد ولكن بلا ضوضاء.
 كانت الحجرة تقبع بين النور والظلمة، وكانت أمنا في الفراش تنام على كومة من الوسائد كانت تسند لها كتفيها، وكانت تبدو أكثر حجمًا من المعتاد، لم نرها هكذا من قبل.  وكان يجلس حولها بعض خادمات المنزل. لم تكن باتيستا قد وصلت بعد، لأن الكونت زوجها، والذي كان عليه اصطحابها، كان قد تعطل بسبب موسم جني العنب.
وعلى ضوء الغرفة الخافت كانت تبرز النافذة المفتوحة، والتي كانت تؤطر كوزيمو وهو واقف هناك ثابتًا على فرع الشجرة.
انحنيت لأقبل يد أمنا، عرفتنى على الفور، ووضعت يدها فوق رأسى - آه، ها قد وصلت يا بياچو.
كانت تتحدث بصوت واهن، وذلك عندما لا تضغط الأزمة بشدة على صدرها، ولكنها كانت تتحدث بطلاقة وبوعي تام. ولكن، ما أدهشني هو إحساسي أنها كانت توجه كلامها إلىّ وإلى كوزيمو على قدم المساواة، وكأنه يقف هو أيضًا بجوار فراشها، وكان كوزيمو يجيبها من فوق الشجرة.
- هل أخذت الدواء منذ فترة طويلة يا كوزيمو؟
- لا يا أمي، أخذته منذ فترة وجيزة، انتظري قليلاً قبل أن تأخذيه مرة أخرى، فلن يفيدك أخذه الآن.
وفي لحظة ما قالت له : كوزيمو، أعطني فص برتقالة، واستغربت أنا الموقف، ولكن زادت دهشتي عندما وجدت أن كوزيمو يمد من النافذة داخل الحجرة شيئاً يشبه خطاف الزوارق وبه أمسك بفص برتقالة من الطبق ووضعه في يد أمنا.
ولاحظت أنها كانت تفضل أن تتوجه إليه هو لتنفيذ هذه الأشياء الصغيرة.
- كوزيمو، اعطنى الشال.
وكان هو يبحث بالخطاف بين الأشياء الموضوعة على المقعد، ثم يرفع الشال ويعطيه لها - ها هو يا أمي.
- أشكرك يا بنى.
وكانت تتحدث معه دائمًا وكأنه على بعد خطوة واحدة منها ولكنني لاحظت أنها لم تطلب منه قط أشياء لا يمكن إنجازها من فوق الشجرة. وفي هذه الحالات كانت تطلب منى، أو من السيدات دائمًا.
وفي الليل لم تكن أمنا تستطيع النوم، وكان كوزيمو يمكث على الشجرة ليسهر بجوارها، ومعه لمبة صغيرة معلقة على أحد الفروع حتى تستطيع أن تراه أيضًا في الظلام.
وكان الصباح هو أحلك  لحظات الأزمة، وكان العلاج الوحيد هو محاولة التسرية عنها، وكان كوزيمو يعزف لها على مزمار بعض النغمات، أو يقلد صوت العصافير، أو كان يصطاد الفراشات ويجعلها تطير أمامها في الغرفة، أو كان يفتح أمامها عناقيد أزهار الوستارية.

وفي أحد الأيام المشمسة، كان كوزيمو يقف فوق الشجرة ومعه قدح يكون به فقاقيع من الصابون، وينفخ بها داخل الغرفة تجاه فراش المريضة. وعندما رأت أمنا تلك الألوان للانعكاسات التي تطير وتملأ الغرفة قالت: آه، يا لها من لعبة مسلية! حيث إن ألعابنا ونحن صغار لم تكن تحوز إعجابها، وكانت ترى أن أساليب تسليتنا طفولية جدًا ولا فائدة لها. ولكن الآن، وربما للمرة الأولى، أسعدتها إحدى ألعابنا. وكانت فقاقيع الصابون تصل إلى وجهها، وكانت هي تمزقها بأنفاسها وتضحك. ووصلت إحداها إلى فوق شفتيها ولم تتحرك انحنينا بجوارها لنراها، وسقط  القدح من بين يدي كوزيمو .. فقد ماتت أمنا.

No comments: