الشعر في حياتنا ـيحيــا العــدل
أحمد عبدالمعطي حجازي
أنا أكتب عن الشعر في حياتنا لا أستطيع أن أتجاهل الدور الذي لعبه الشعر في قضية مهندسة الديكور هند الحناوي والممثل أحمد الفيشاوي، فقد ذكرت الصحف أن محكمة استئناف القاهرة للأحوال الشخصية برئاسة المستشار أحمد رجائي دبوس أصدرت حكمها النهائي في قضية اثبات نسب الطفلة لينا بنت هند الحناوي، وقضت بأن والدها هو أحمد الفيشاوي، وقالت الصحف إن رئيس المحكمة لم يكتف بما أورده من مقدمات وأسانيد أسس عليها حكمه النهائي،وانما أضاف الي الحجج القانونية مقطعا من قصيدة لنزار قباني يتحدث فيها بلسان فتاة تقف موقفا شبيها بموقف هند الحناوي، وتخاطب رجلا يقف في مكان الفيشاوي قائلة له:
لا تمتقع/ هي كلمة عجلي/ إني لأشعر أنني حبلي/ وصرخت كالملسوع بي/ كلا/ سنمزق الطفلا/ وأردت تطردني/ وأخذت تشتمني/ لا شيء يدهشني/ فلقد عرفتك دائما نذلا/ وبعثت بالخدام يدفعني/ في وحشة الدرب/ يا من زرعت العار في صلبي/ وكسرت لي قلبي/ ليقول لي مولاي ليس هنا/ مولاه ألف هنا/ لكنه جبنا/ لما تأكد أنني حبلي/ ليراتك الخمسون تضحكني/ لمن النقود؟ لمن؟ لتجهضني؟/ لتخيط لي كفني؟/ هذا إذن ثمني/ ثمن الوفا يا بؤرة العفن/ أنا لم أجئك لمالك النتن/شكرا/ سأسقط ذلك الحملا/ أنا لا أريد له أبا نذلا/!
والعنوان الحقيقي للقصيدة هو حبلي وليس طفولة نهد كما ذكرت بعض الصحف، وهي من مجموعته الشعرية قصائد التي نشرها في أواسط الخمسينيات من القرن الماضي، في تلك المرحلة الأولي من شعره التي كانت المرأة فيها موضوعه الأول أو موضوعه المفضل،والمرأة في قصائد هذه المجموعة هي المرأة كما يحب الدون جوان الشرقي للمرأة أن تكون، فهو يريدها في البداية جميلة أنيقة تثيره وتشبعه، ثم يريدها في النهاية ضحية منكسرة مضطرة للتنازل عن حقوقها والرضا بمصيرها، وهذا هو الفرق بين بطلة قصيدة نزار وهند الحناوي،
، بطلة نزار لم تملك إلا أن تستسلم للحكم الوحشي الذي نزل بها وقضي بأن تتخلي عن جنينها، وتكتم عن الناس قصتها، وتعود الي بيتها منهارة مسحوقة. أما هند الحناوي فلم تخضع لهذا الحكم الجائر، ولم تستسلم لهذا المصير الذي قرر شريكها أن يدفع بها إليه ويفر بجلده،
المجتمع في معظم طبقاته ومؤسساته في حالة فرار وانسحاب من الحاضر وارتداد الي الماضي، لا يعترف بالحب، ولا يعبأ بالحرية، ويسيء الظن بالمرأة ويتهمها ولا يرضي عنها إلا اذا انسحبت واختفت وابتلعتها الظلمة السوداء، وأسلمت روحها وجسدها للقوامين،
فإن أبت وأصرت علي أن تفكر برأسها وتختار لنفسها كما فعلت هند الحناوي فهي امرأة آثمة عليها أن تتحمل وحدها نتيجة ما فعلت، وعلي أسرتها أن تنبذها ان لم تقتلها، وعلي المجتمع ان يلعنها ويتبرأ منها، أما شريكها فليس عليه إلا أن يشهد بأن ما بينه وبينها لم يكن إلا علاقة آثمة،
،ومع أن الوصف الذي وصف به أحمد الفيشاوي علاقته بهند يسيء الي صورته وسمعته كشاب مهذب وفنان موهوب،فقد فضل أن يكون طرفا في علاقة آثمة علي أن يكون زوجا أو عاشقا، لأنه يريد أن يعفي نفسه من أي مسئولية قانونية أو أخلاقية، معتمدا علي أن المجتمع يغفر للرجال آثامهم ويغض الطرف عنها، وقد يشجعهم علي ارتكاب المزيد منها، لكنه يقتل المرأة الآثمة
،ومن هو الذي سيعترض الآن وقد تراجع الضمير وفسدت اللغة، فلم تعد تنطق بلسان العصر أو بلسان العقل أو حتي بلسان الجسد، وانما اللغة الآن أقنعة مهترئة وألوان وأصباغ لإخفاء الحقيقة وتزيين الكذب. وفي الوقت الذي فسدت فيه اللغة، واهتزت القيم فلم نعد نعرف الفرق بين الحب والزنا، وبين المرأة والفراش، يعجز المجتمع عن أن يوفر لمعظم أبنائه حاجاتهم الأساسية حتي ان اعمار الكثيرين تنقضي دون أن يتمكنوا من اختيار الشريك وبناء الأسرة، ولا يكون أمامهم في النهاية إلا هذه المغامرات العشوائية التي خلفت لنا حتي الآن مليوني طفل يتهرب منهم آباؤهم، ويرفضون الاعتراف ببنوتهم، ليس لان هؤلاء الآباء أشرار بطبيعتهم، ولكن لان المجتمع يحتقر المرأة ويطلق العنان للرجال،
ولو أن هذا الشاب الموهوب وجد من يخلص له النصح ويشجعه علي أن يمد يده للفتاة التي أحبها، وان يمنح اسمه للطفلة البريئة التي تواجه العالم دون أن تحمل اسم أبيها الذي منحها الحياة ـ لو أنه وجد هذا الناصح المخلص الأمين لكان له سلوك آخر، ولاشك في أن هند الحناوي مدينة لشجاعة أبويها وثقافتهما واستنارتهما بالانتصار الذي حققته لنفسها ولبنات جنسها، ولعب فيه الشعر دورا مشهودا. لقد أراد القاضي الفاضل المثقف أن يخاطب ضمائر المصريين، ويستنهض هممهم، ويشجعهم علي مراجعة أنفسهم، ويساعدهم علي فهم العدالة وتمثل حقيقتها، فالعدالة ليست مجرد نصوص ومواد مكتوبة، ولكنها ثقافة وخبرة، ليست قواعد واجراءات شكلية بل هي وعي وضمير ووجدان، والعدالة لا تكون عدالة اذا تعارضت مع قيمة أخلاقية أو مثل أعلي أو حق من حقوق الإنسان
ولقد وقفت الفتاة الحبلي في قصيدة نزار وحدها عزلاء لا تملك إلا الحقيقة التي أنكرها شريكها المتحصن خلف جبنه ونذالته، فمع من نقف؟ هل نتركها تسقط حملها؟ أم ننقذ الحمل وننقذ الحامل؟وهل كانت لغة القانون قادرة وحدها علي أن تخاطب ضمائرنا علي هذا النحو، وتلقي علينا هذا السؤال، وتستفزنا للجواب عليه كما ينبغي أن يكون الجواب؟ لا، وانما الشعر هو وحده القادر علي أن يخاطبنا جميعا في وقت واحد. لغة نزار في هذه القصيدة وفي شعره كله أو معظمه تتأرجح بين الفصحي والعامية، ومع انه صانع ماهر يملك أدوات الكتابة الشعرية فهو يفضل الكتابة باللغة التي نستعملها
في حديثنا اليومي، مستخدما جملها ومفرداتها ونحوها ومنطقها وايقاعها، يقول هي كلمة عجلي كأنه يقول هي كلمة ورد غطاها، ويقول الخدام لا الخادم، ويقول مولاه ألف هنا بدلا من أن يقول مولاه هنا ألف مرة، وهو لا يقدم لنا في قصيدته تقريرا أو وصفا محايدا، بل يتقمص الشخصية ويتحدث بلسانها، ولهذا استمعنا لما قالته بطلة قصيدته، وانفعلنا بقصتها، ووقفنا الي جانبها، وانتقلنا من القصيدة الي القضية المطروحة أمامنا، فرأينا الظلم الذي وقع علي بطلة نزار يقع من جديد علي هند الحناوي وعلي طفلتها لينا التي تقف الي جوارها?، فنطقنا مع القاضي الفاضل بالحكم العادل، يحيا العدل، ويحيا الشعر